ليبيا: نحو إعادة توازن القوى
شكلت خسارة قاعدة الوطية الجوية الواقعة ١٢٥كيلومترًا جنوب غرب طرابلس انتكاسة استراتيجية ثانية لقوات المشير حفتر بعد خسارة مدينة غريان في يونيو ٢٠١٩. تعود هذه الانتكاسة إلى التحول العسكري النوعي الذي طرأ على قوات الوفاق التي كانت مؤلفة في بادئ الأمر من مجموعات شبه عسكرية غير متجانسة ذات مصالح متعارضة، و مهام دفاعية بحتة. بالتالي استطاعت قوات الوفاق، بمساعدة حليف نوعي كتركيا إلى التحول إلى قوى عسكرية متجانسة تتمتع بمركز قيادة وسيطرة مشترك بالإضافة إلى قدرات عسكرية هجومية كالطائرات من دون طيار من طرازي Bayraktar TB-2 و Anka-S.
أما بالنسبة للجيش الوطني الليبي وحلفائه الإقليميين، فكانت هذه الانتكاسة الاستراتيجية مرادفة لإعادة هيكلة عسكرية كبرى. نتيجة ذلك، انسحبت مجموعات فاغنر الروسية التي كانت تشكل رأس الحربة خلال الحملة العسكرية على طرابلس نحو وسط وشرق البلاد مسببة بذلك تقلصا نوعيا في القدرات البرية لدى الجيش الوطني. في الوقت ذاته، عزز الجيش الوطني قدراته الجوية عبر استقدام طائرات ميغ-٢٩ روسية الى قاعدة الجفرة.
لم تخل إعادة الهيكلة العسكرية من العواقب الجيوسياسية، فأصبحت روسيا، التي تعني بالشأن العسكري الليبي كمقدم خدمات عبر شركة فاغنر وليس كدولة خلافاً لما يحصل في الملف السوري، هي الجهة الإقليمية القادرة على تحديد الخطوط الميدانية الجديدة. بالتالي ستستطيع موسكو التفاوض على المدى المتوسط مع تركيا اردوغان من أجل الوصول إلى اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار خصوصاً أن لدى الجانبين تعاون في ملفات أخرى كالملف السوري.
إن أعادة توازن القوى على الساحة الليبية منوط أيضاً بتغير حقيقي ونوعي من الجانب الأمريكي. إذ أن البيان الصحفي الصادر عن القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا، الذي أدان "التصرفات الروسية الخبيثة" و الذي حذر من أن إمكانية نشر موسكو قدرات A2/AD (أي حظر الوصول) على الساحل الليبي قد تشكل تهديداً أمنيا حقيقياً جنوب اوروبا، هو بالتالي عبارة عن تحذير جدي صادر عن البنتاجون الذي يشارك وزارة الخارجية الأمريكية، بخلاف البيت الأبيض، خشيته من الدور الروسي المتنامي على الساحة الليبية.
ستعتمد إعادة التوازن أيضًا على الاحترام المتبادل للخطوط الحمراء التي يتم تحديدها حالياً من قبل الحلفاء الإقليمين لطرفي النزاع. بالتالي فإن أي استخدام غير محسوب النتائج للقدرات العسكرية المستقدمة حديثاً من قبل الجيش الوطني الليبي يمكن أن يؤدي إلى جولة جديدة من التصعيد خصوصاً أن التدخل العسكري التركي الى جانب قوات الوفاق، وإن كان بدافع المصالح الاستراتيجية الناتجة عن توقيع الاتفاقية البحرية، يهدف قبل كل شيء إلى إعادة توازن القوى ، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى إتفاق سياسي بين طرفي النزاع. إلا أن محدودية المنافع الإقتصادية في إقليم طرابلس قد يؤدي لإمتداد الحملة العسكرية شرقاً (الهلال النفطي) أو جنوباً (ولاية فزان).
أما فرنسا ،التي يقتصر دورها في الملف الليبي على البعد الدبلوماسي، أصبحت ذات تأثير محدود بظل وجود لاعبين اقليميين أكثر انخراطاً في الصراع ،خصوصاً على المستوى العسكري. في هذا السياق، تسعى السفيرة الفرنسية في ليبيا Béatrice Le Fraper du Hellen إلى الحفاظ على صورة الحياد الدبلوماسي الفرنسي تجاه طرابلس بالرغم من أن موقع باريس الحقيقي يقع في إطار الموقف التقليدي إلى جانب حلفائها الاستراتيجيين في الخليج بشكل عام و إلى جانب الإمارات العربية المتحدة بشكل خاص.
بالتالي ، فإن إعادة إحياء النفوذ الفرنسي مرتبط باستعادة ناجحة ومقنعة لصورة باريس الحيادية.